كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل:
وأما السؤال الخامس عشر: وهو ما الحكمة في تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة فسره والله أعلم أن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب ومواطن الوحشة وكلما كان الموضع مظنة ذلك تأكد طلب السلامة وتعلقت بها الهمة فذكرت هذه المواطن الثلاثة لأن السلامة فيها آكد وطلبها أهم والنفس عليها أحرص لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقرا فيها موطن النفس على صحبتها وسكناها إلى دار هو فيها معرض للآفات والمحن والبلاء فإن الجنين من حين خرج إلى هذه الدار انتصب لبلائها وشدائدها ولأوائها ومحنها وأفكارها كما أفصح الشاعر بهذا المعنى حيث يقول:
تأمل بكاء الطفل عند خروجه ** إلى هذه الدنيا إذا هو يولد

تجد تحته سرا عجيبا كأنه ** بكل الذي يلقاه منه مهدد

وإلا فما يبكيه منها وإنها ** لأوسع مما كان فيه وأرغد

ولهذا من حين خرج ابتدرته طعنة الشيطان في خاصرته فبكى لذلك ولما حصل له من الوحشة بفراق وطنه الأول وهو الذي أدركه الأطباء والطبائعيون وأما ما أخبر به الرسول فليس في صناعتهم ما يدل عليه كما ليس فيها ما ينفيه فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور الموطن الثاني خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت ونسبة الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريبا وتمثيلا وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأكبر وطلب السلامة أيضا عند انتقاله إلى تلك الدار من أهم الأمور الموطن الثالث موطن يوم القيامة يوم يبعث الله تعالى الأحياء ولا نسبة لما قبله من الدور إليه وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله فإن عطبه لا يستدرك وعثرته لا تقال وسقمه لا يداوى وفقره لا يسد فتأمل كيف خص هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها وتأمل ما في السلام مع الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة ثم نزل ذلك على الوحشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة عند خروجه إلى عالم الإبتلاء وعند معاينته هول المطلع إذا قدم على الله وحيدا مجردا عن كل مؤنس إلا ما قدمه من صالح عمل وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق لها واستعمل بعمل أهلها فأي موطن أحق بطلب السلامة من هذه المواطن فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه.
فصل:
وأما السؤال السادس عشر: وهو ما الحكمة في تسليم النبي صلى الله عليه وسلم على من اتبع الهدى في كتابه إلى هرقل بلفظ النكرة وتسليم موسى عليهم بلفظ المعرفة فالجواب عنه أن تسليم النبي صلى الله عليه وسلم تسليم ابتدائي ولهذا صدر به الكتاب حيث قال من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ففي تنكيره ما في تنكير سلام من الحكمة وقد تقدم بيانها وأما قول موسى والسلام على من اتبع الهدى فليس بسلام تحية فإنه لم يبتدئ به فرعون بل هو خبر محض فإن من اتبع الهدى له السلام المطلق دون من خالفه فإنه قال له: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أفلا ترى أن هذا ليس بتحية في ابتداء الكلام ولا خاتمته وإنما وقع متوسطا بين الكلامين إخبارا محضا عن وقوع السلامة وحلولها على من اتبع الهدي ففيه استدعاء لفرعون وترغيب له بما جبلت النفوس على حبه وإيثاره من السلامة وأنه إن اتبع الهدى الذي جاءه به فهو من أهل السلام والله تعالى أعلم وتأمل حسن سياق هذه الجمل وترتيب هذا الخطاب ولطف هذا القول اللين الذي سلب القلوب حسنه وحلاوته مع جلالته وعظمته كيف ابتدأ الخطاب بقوله إنا رسول ربك وفي ضمن ذلك إنا لم نأتك لننازعك ملكك ولا لنشركك فيه بل نحن عبدان مأموران مرسلان من ربك إليك وفي إضافة اسم الرب إليه هنا دون إضافته إليهما استدعاء لسمعه وطاعته وقبوله كما يقول الرسول للرجل من عند مولاه أنا رسول مولاك إليك وأستاذك وإن كان أستاذهما معا ولكن ينبهه بإضافته إليه على السمع والطاعة له ثم إنهما طلبا منه أن يرسل معهما بني إسرائيل ويخلي بينهم وبينهما ولا يعذبهم ومن طلب من غيره ترك العدوان والظلم وتعذيب من لا يستحق العذاب فلم يطلب منه شططا ولم يرهقه من أمره عسرا بل طلب منه غاية النصف ثم أخبره بعد الطلب بثلاث إخبارات أحدها قوله تعالى: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} فقد برئنا من عهدة نسبتك لنا إلى التقول والافتراء بما جئناك به من البرهان والدلالة الواضحة فقد قامت الحجة ثم بعد ذلك للمرسل إليه حالتان إما أن يسمع ويطيع فيكون من أهل الهدى والسلام على من اتبع الهدى وإما أن يكذب ويتولى فالعذاب على من كذب وتولى فجمعت الآية طلب الإنصاف وإقامة الحجة وبيان ما يستحق السامع المطيع وما يستحقه المكذب المتولي بألطف خطاب وأليق قول وأبلغ ترغيب وترهيب.
فصل:
وأما السؤال السابع عشر: وهو أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} هل السلام من الله تعالى فيكون المأمور به الحمد والوقف التام عليه أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا فالجواب عنه أن الكلام يحتمل الأمرين ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح فيرجح كونه داخلا في جملة القول بأمور منها اتصاله به وعطفه عليه من غير فاصل وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع ولهذا إذا قلت الحمد لله وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول ومنها أنه إذا كان معطوفا على المقول كان عطف خبر على خبر وهو الأصل ولو كان منقطعا عنه كان عطفا على جملة الطلب وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب ومنها أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} ظاهر في أن المسلم هو القائل الحمد لله ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة ولم يقل سلام على عبادي ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى كقوله سلام على نوح في العالمين سلام على إبراهيم سلام على موسى وهارون سلام على آل ياسين ومنها أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم أما الأول فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله ثم سلامه على رسله وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه ثم سلم على المرسلين وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد وأعظم ما جاءوا به التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض وما خالفه هو الباطل والكذب المحال وهذا المعنى بعينه في قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى كما هو في آخر الصافات وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره فمنه قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ} وقوله: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} وقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} ونظائره كثيرة جدا وفصل الخطاب: في ذلك أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا وتنتظمهما انتظاما واحدا فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه وليس فيه إلا البلاغ والكلام كلام الرب تبارك وتعالى فهو الذي حمد نفسه وسلم على عباده وأمر رسوله بتبليغ ذلك فإذا قال الرسول الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه وسلم به هو على عباده فهو سلام من الله ابتداء ومن المبلغ بلاغا ومن العباد اقتداء وطاعة فنحن نقول كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} ونظير هذا قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فهو توحيد منه لنفسه وأمر للمخاطب بتوحيده فإذا قال العبد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كان قد وحد الله بما وحد به نفسه وأتى بلفظة قل تحقيقا لهذا المعنى وأنه مبلغ محض قائل لما أمر بقوله والله أعلم وهذا بخلاف قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فإن هذا أمر محض بإنشاء الاستعاذة لا تبليغ لقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فإن الله لا يستعيذ من أحد وذلك عليه محال بخلاف قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإنه خبر عن توحيده وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد فتأمل هذه النكتة البديعة والله المستعان.
فصل:
وأما السؤال الثامن عشر: وهو نهى النبي صلى الله عليه وسلم من قال له عليك السلام عن ذلك وقال: «لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى» فما أكثر من ذهب عن الصواب في معناه وخفي عليه مقصوده وسره فتعسف ضروبا من التأويلات المستنكرة الباردة ورد بعضهم الحديث وقال قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تحية الموتى: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» رواه مسلم قالوا: وهذا أصح من حديث النهي وقد تضمن تقديم ذكر لفظ السلام فوجب المصير إليه وتوهمت طائفة أن السنة في سلام الموتى أن يقال عليكم السلام فرقا بين السلام على الأحياء والأموات وهؤلاء كلهم إنما أتوا ما أتوه من عدم فهمهم لمقصود الحديث فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «عليك السلام تحية الموتى» ليس تشريعا منه وإخبارا عن أمر شرعي وإنما هو إخبار عن الواقع المعتاد الذي جرى على ألسنة الشعراء والناس فإنهم كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء كما قال قائلهم:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ** ورحمته ما شاء أن يترحما

وقول الذي رثى عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عليك سلام من أمير وباركت ** يد الله في ذاك الأديم الممزق

وهذا أكثر في أشعارهم من أن نذكره هاهنا والإخبار عن الواقع لا يدل على جوازه فضلا عن كونه سنة بل نهيه عنه مع إخباره بوقوعه يدل على عدم مشروعيته السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلم عليه وأن السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلم عليه في السلام على الأحياء وعلى الأموات فكما لا يقال في السلام على الأحياء عليكم السلام فكذلك لا يقال في سلام الأموات كما دلت السنة الصحيحة على الأمرين وكأن الذي تخيله القوم من الفرق أن المسلم على غيره لما كان يتوقع الجواب وأن يقال له وعليك السلام بدءوا باسم السلام على المدعو له توقعا لقوله وعليك السلام وأما الميت فما لم يتوقعوا منه ذلك قدموا المدعو له على الدعاء فقالوا: عليك السلام وهذا الفرق لو صح كان دليلا على التسوية بين الأحياء والأموات في السلام فإن المسلم على أخيه الميت يتوقع الجواب أيضا قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من رجل يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام» صحيح وبالجملة فهذا الخيال قد أبطلته السنة الصحيحة تشريع السلام على الأحياء والأموات وهنا نكتة بديعة ينبغي التفطن لها وهي أن السلام شرع على الأحياء والأموات بتقديم اسمه على المسلم عليهم لأنه دعاء بخير والأحسن في دعاء الخير أن يتقدم الدعاء به على المدعو له كقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} وأما الدعاء بالشر فيقدم فيه المدعو عليه المدعو به غالبا كقوله تعالى لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} وقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} وقوله: {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} وسر ذلك والله أعلم أن في الدعاء بالخير قدموا اسم الدعاء المحبوب الذي تشتهيه النفوس وتطلبه ويلذ للسمع لفظه فيبدأ السمع بذكر الاسم المحبوب المطلوب ويبدأ القلب بتصوره فيفتح له القلب والسمع فيبقى السامع كالمنتظر لمن يحصل هذا وعلى من يحل فيأتي باسمه فيقول عليك أو لك فيحصل له من السرور والفرح ما يبعث على التحاب والتواد والتراحم الذي هو المقصود بالسلام وأما في الدعاء عليه ففي تقديم المدعو عليه إيذان باختصاصه بذلك الدعاء وأنه عليه وحده كأنه قيل له هذا عليك وحده لا يشركك فيه السامعون بخلاف الدعاء بالخير فإن المطلوب عمومه وكل ما عم به الداعي كان أفضل وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضل السماء على الأرض وذكر في ذلك حديثا مرفوعا عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم: مر به وهو يدعو فقال: «يا علي عم فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض» وفيه فائدة ثانية أيضا وهي: أنه في الدعاء عليه إذا قال له عليك انفتح سمعه وتشوف قلبه إلى أي شيء يكون عليه فإذا ذكر له اسم المدعو به صادف قلبه فارغا متشوفا لمعرفته فكان أبلغ في نكايته ومن فهم هذا فهم السر في حذف الواو في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ففاجأهم وبغتهم عذابها وما أعد الله تعالى فيها فهم بمنزلة من وقف على باب لا يدري بما يفتح له من أنواع الشر إلا أنه متوقع منه شرا عظيما ففتح في وجهه وفاجأه ما كان يتوقعه وهذا كما تجد في الدنيا من يساق إلى السجن فإنه يساق إليه وبابه مغلق حتى إذا جاءه فتح الباب في وجهه ففاجأته روعته وألمه بخلاف ما لو فتح له قبل مجيئه وهذا بخلاف أهل الجنة فإنهم لما كانوا مساقين إلى دار الكرامة وكان من تمام إكرام المدعو الزائر أن يفتح له باب الدار فيجيء فيلقاه مفتوحا فلا يلحقه ألم الانتظار فقال في أهل الجنة {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وحذف الجواب تفخيما لأمره وتعظيما لشأنه على عادتهم في حذف الجوابات لهذا المقصد وهذه الطريقة تريحك من دعوى زيادة الواو ومن دعوى كونها واو الثمانية لأن أبواب الجنة ثمانية فإن هذا لو صح فإنما يكون إذا كانت الثمانية منسوقة في اللفظ واحدا بعد واحد فينتهون إلى السبعة ثم يستأنفون العدد من الثمانية بالواو وهنا لا ذكر للفظ الثمانية في الآية ولا عدها فتأمله على أن في كون الواو تجيء للثمانية كلام آخر قد ذكرناه في الفتح المكي وبينا المواضع التي ادعى فيها أن الواو للثمانية وأين يمكن دعوى ذلك وأين يستحيل فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بأن سيد الخلائق صلى الله عليه وسلم يأتي باب الجنة فيلقاه مغلقا حتى يستفتحه قلنا هذا من تمام إظهار شرفه وفضله على الخلائق أن الجنة تكون مغلقة فلا تفتح لأهلها إلا على يديه فلو جاءها وصادقها مفتوحة فدخلها هو وأهلها لم يعلم الداخلون أن فتحها كان على يديه وأنه هو الذي استفتحها لهم ألا ترى أن الخلق إذا راموا دخول باب مدينة أو حصن وعجزوا ولم يمكنهم فتحه حتى جاء رجل ففتحه لهم أحوج ما كانوا إلى فتحه كان في ذلك من ظهور سيادته عليهم وفضله وشرفه ما لا يعلم لو جاء هو وهم فوجدوه مفتوحا وقد خرجنا عن المقصود وما أبعدنا ولا تستطل هذه النكت فإنك لا تكاد تجدها في غير هذا التعليق والله تعالى المان بفضله وكرمه.